فصل: القصاص في الأطراف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.القصاص في الأطراف:

وضابط ما فيه القصاص من الاطراف، وما لاقصاص فيه: أن كل طرف له مفصل معلوم، كالمرفق، والكوع، ففيه القصاص، وما لا مفصل له فلا قصاص فيه، لأنه يمكن المماثلة في الأول دون الثاني، فيقتص ممن قطع الاصبع من أصلها، أو قطع اليد من الكوع أو المرفق، أو قطع الرجل من المفصل، أو فقأ العين، أو جذع الانف، أو قطع الاذن، أو قلع السن، أو جب الذكر، أو قطع الانثيين.

.شروط القصاص في الاطراف:

ويشترط في القصاص في الاطراف ثلاثة شروط:

.1- الأمن من الحيف:

بأن يكون القطع من مفصل، أو يكون له حد ينتهي إليه، كما تقدمت أمثلة ذلك، فلا قصاص في كسر عظم غير السن، ولا جائفة، ولا بعض الساعد، لأنه لا يؤمن الحيف في القصاص في هذه الاشياء.

.2- المماثلة في الاسم والموضع:

فلا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر ببنصر، ولاعكس، لعدم المساواة في الاسم، ولا يؤخذ أصلي بزائد - ولو تراضيا - لعدم المساواة في الموضع والمنفعة. ويؤخذ الزائد بمثله موضعا وخلقة.

.3- استواء طرفي الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال:

فلا يؤخذ عضو صحيح بعضو أشل، ولايد صحيحة بيد ناقصة الاصابع، ويجوز العكس، فتؤخذ اليد الشلاء باليد الصحيحة.

.القصاص من جراح العمد:

وأما جراح العمد، فلا يجب فيها القصاص إلا إذا كان ذلك ممكنا، بحيث يكون مساويا لجراح المجني عليه من غير زيادة ولا نقص.
فإذا كانت المماثلة والمساواة لا يتحققان إلا بمجاوزة القدر، أو بمخاطرة، أو إضرار، فإنه لا يجب القصاص، وتجب الدية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع القود في المأمومة، والمنقلة، والجائفة، وهذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف: مثل كسر عظم الرقبة، والصلب، والفخذ، وما أشبه ذلك.

والشجاج: وهي الجراحات التي تقع بالرأس والوجه لاقصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا.
وسيأتي الكلام على بقية الشجاج في باب الديات.
ولا قصاص في اللسان، ولا في كسر عظم، إلا في السن، لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير ظلم.
ومن جرح رجلا جائفة فبرئ منها، أو قطع يده من نصف الساعد، فلا قصاص عليه، وليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة لنصف الساعد، ولو كسر عظم رجل سوى السن، كضلع، أو قطع يدا شلاء أو قدما لا أصابع فيها، أو لسانا أخرس، أو قلع عينا عمياء، أو قطع إصبعا زائدة، ففي ذلك كله حكومة عدل.

.اشتراك الجماعة في القطع أو الجرح:

ذهبت الحنابلة إلى أنه إذا اشترك جماعة في قطع عضو، أو جرح يوجب القصاص، فإن لم نتميز أفعالهم، فعليهم جميعا القصاص، لما روى عن علي كرم الله وجهه: انه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة، فقطع يده.
ثم جاء آخر، فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغر مهما دية الأول، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما وإن تفرقت أفعالهم، أو قطع كل واحد من جانب، فلا قود عليهم.
وقال مالك والشافعي: يقتص منهم متى أمكن ذلك، فتقطع أعضاؤهم، ويقتص منهم بالجراحة.
كما إذا اشترك جماعة في قتل نفس، فإنهم يقتلون بها.
وذهب الأحناف والظاهرية: إلى أنه لا تقطع يدان في يد، فإذا قطع رجلان يد رجل، فلا قصاص على واحد منهما، وعليهما نصف الدية.

.القصاص في اللطمة والضربة والسب:

يجوز للانسان أن يقتص ممن لطمه، أو لكزه، أو ضربه، أو سبه، لقول الله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله}. وقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. وعلى هذا مضت السنة بالقصاص في ذلك.
ويشترط أن يكون، اللطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السب، الصادر من المجني عليه مساويا للطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السلب الصادر من الجاني، لأن ذلك هو مقتضى العدل الذي من أجله شرع القصاص.
كما يشترط في القصاص في اللطمة ألا تقع في العين أو في موضع يخشى منه التلف.
ويشترط في القصاص في السب خاصة، ألا يكون محرم الجنس، فليس له أن يكفر من كفره، أو يكذب على من كذب عليه، أو يلعن أب من لعن أباه، أو يسب أم من سب أمه، لأن تكفير المسلم أو الكذب عليه مما هو محرم في الإسلام ابتداء، ولان أباه لم يلعنه حتى يلعنه.
وكذلك أمه لم تشتمه فيسبها، له أن يلعن من لعنه، ويقبح من قبحه، ويقول الكلمة النابية، ويردها على وقائلها قصاصا.
قال القرطبي: فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه، ولا ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية.
فلو قال لك مثلا: يا كافر. جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب، يا شاهد زور.
ولو قلت له: يا زان كنت كاذبا، وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني - دون عذر - فقل: يا ظالم. يا آكل أموال الناس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته».
أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. انتهى.
والقصاص في اللطمة، والضرب، والسب، ثابت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين.
ذكر البخاري عن أبي بكر، وعلي، وابن الزبير، وسويد بن مفرن أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها.
قال ابن المنذر: وما أصيب به من سوط، أو عصا، أو حجر، فكان دون النفس، فهو عمد، وفيه القود.
وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث.
وفي البخاري: وأقاد عمر رضي الله عنه من ضربة بالدرة.
وأقاد علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش.
وخالف في ذلك كثير من فقهاء الأمصار، فقالوا: بعدم مشروعية القصاص في شيء من هذا، لأن المساواة متعذرة في ذلك غالبا.
وإذا كان لا يجب فيها القصاص فالواجب فيها التعزير.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية الرأي الأول، فقال: وأما قول القائل: إن المماثلة في ذلك متعذرة، فيقال له: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير.
فإذا جوز أن يكون تعزيرا غير مضبوط الجنس والقدر، فلان يعاقب بما هو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحرى.
والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان.
ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب مثل ضربته أو قريبا منها، كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط.
فالذي يمنع القصاص في ذلك - خوفا من الظلم - يبيح ما هو أعظم ظلما مما فر منه، فيعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل انتهى.

.القصاص في إتلاف المال:

إذا أتلف إنسان مال غيره، كن يقطع شجره، أو يفسد زرعه، أو يهدم داره، أو يحرق ثوبه، فهل له أن يقتص منه فيفعل به مثل ما فعل؟ للعلماء في ذلك رأيان:
1- رأي يرى أن القصاص في ذلك غير مشروع، لأنه إفساد من جهة، ولان العقار والثياب غير متماثلة من جهة أخرى.
2- ورأي يرى شرعية ذلك، لأن القصاص في الأنفس والاطراف جائز، ولاشك أن الأنفس والاطراف أعظم قدرا من الأموال.
وإذا كان القصاص جائزا فيها، فالأموال - وهي دونها - من باب أولى.
ولهذا جاز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمر.
وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة.
ورجح ابن القم هذا الرأي، فقال: إتلاف المال، فإن كان مما له حرمة، كالحيوان والعبيد، فليس له أن يتلف ماله كما أتلف ماله، وإن لم تكن له حرمة، كالثوب يشقه، والإناء يكسره، فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظير ما أتلفه بل له القيمة أو المثل.
والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه، كما فعله الجاني به، فيشق ثوبه كما شق ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه، إذا كانا متساويين، وهذا من العدل، وليس مع من منعه نص، ولا قياس، ولا إجماع، فإن هذا ليس بحرام لحق الله، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والاطراف، فإذا مكنه الشارع أن يتلف طرفه بطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى.
وإن حكمة القصاص من التشفي، ودرك الغيظ، لا تحصل إلا بذلك.
ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه، ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك عليه، لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك، ويبقى المجني عليه بغبنه وغيظه، فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه، ودرك ثأره، وبرد قلبه، وإذاقة الجاني من الاذى ما ذاقه هو.
فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة، وقياسها معا يأبى ذلك.
وقوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} وقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} يقتضي جوازا ذلك.
وقد صرح الفقهاء بجواز إحراق زرع الكفار، وقطع أشجارهم، إذا كانوا يفعلون ذلك بنا.
وهذا عين المسألة.
وقد أقر الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود، لما فيه من خزيهم،
وهذا يدل على أنه سبحانه يحب خزي الجاني الظالم، ويشرعه.
وإذا جاز تحريق متاع الغال، لكونه تعدى على المسلمين في خيانتهم في شيء من الغنيمة، فلان يحرق ماله إذا حرق مال المسلم المعصوم، أولى وأحرى.
وإذا شرعت العقوبة المالية في حق الله، الذي مسامحته به أكثر من استيفائه، فلان تشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى.
ولان الله سبحانه، شرع القصاص زجرا للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل وأصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس وللاطراف وإلا فمن كان في نفسه من الآخر - من قتله أو قطع طرفه - قتله أو قطع طرفه وأعطى ديته والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك.
وهذا بعينه موجود في العدوان على المال.
فإن قيل: هذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه.
قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه، فهذا هو محض القياس، وبه قال الأحمدان: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية.
قال في رواية موسى بن سعيد: وصاحب الشئ يخير: إن شاء شق الثوب، وإن شاء أخذ مثله انتهى.
ضمان المثل: اتفق العلماء على أن من استهلك، أو أفسد شيئا من المطعوم، أو المشروب أو الموزون، فإنه يضمن مثله.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت صانع طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فبعثت به، فأخذني أفكل، فكسرت الاناء، فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ فقال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام. رواه أبو داود.
واختلفوا فيما إذا كان ما استهلك، أو أفسد، مما لا يكال ولا يوزن.
فذهبت الأحناف والشافعية: إلى أن على من استهلكه أو أفسده، ضمان المثل، ولا يعدل عنه إلى القيمة إلا عند عدم المثل لقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
وهذا عام في الاشياء جميعها، ويؤيده حديث عائشة المتقدم.
وذهبت المالكية إلى أنه يضمن القيمة، لا المثل الاعتداء بالجرح أو أخذ المال إذا تعدى إنسان على آخر بالجرح، أو بأخذ المال، فهل للمعتدى عليه، أن يأخذ حقه بنفسه إذا ظفر به؟ للعلماء في هذه المسألة أكثر من رأي، وقد رجح القرطبي الجواز فقال: والصحيح جواز ذلك، كيفما توصل إلى أخذ حقه، ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» وأخذ الحق من الظالم نصر له.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف».
فأباح لها الاخذ، وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها.
وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} قاطع في موضع الخلاف.
قال: واختلفوا إذا ظفر بمال له من غير جنس ماله.
فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم.
وللشافعي قولان: أصحهما الاخذ قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله.
والقول الثاني: لا يأخذ، لأنه خلاف الجنس.
ومنهم من قال: يتحرى قيمة ماله عليه، ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه بالدليل انتهى.